
فاضل المخزومي
سيرة الضوء الخافت في زمن العتمة..
حروف تبحث عن معنى
في زوايا الورق المتآكل، حيث يكاد الزمن يبتلع الحروف قبل الأرواح، تكمن حكاية لم يروِها إلا الصمت.
إنها سيرة رجلٍ سكنته الأسئلةُ قبل الألفة، وحفر في جدار التاريخ بحثًا عن بصيص يشابه وَجعه. قرأ “نهج البلاغة” حتى صار كلام الإمام علي (عليه السلام) منارا يضيء عقله، ونارا تذيب غموض الأحداث. صار الحكمة ذاتها، يفكك الوقائعَ بمِبْضعِ المنطق، ويبحث عن العدل في زمنِ الظلم.
عندما اشتعلت انتفاضة 1991، لم يكن يبحث عن مجد يخلد، بل عن حياةٍ تختزل في كرامة الموت. حمل قلماً بدل السلاح، يدون سجلاتِ نفوس مدينة المدحتية البالغة 177 سجلًا، كأنه يحصي جراحات وطنٍ ينزف في الخفاء. أخفاها تحت أرضية بيتٍ خاوٍ، خوفاً من أن تتحول الوقائعُ إلى رمادٍ بين أيدي الغوغاء.
بعد أن خمد لهيب الانتفاضة، صار طريداً بين المدن. حاول العبور إلى إيران، لكن شط العرب رفض أن يكون جسراً لمن لا يجيد السباحة في بحر السياسة. وفي صفوان، حيث ينتظر العراقيون رحمة القوى العظمى، رأى وجوهاً تذوب قهراً تحت شمس اللاجئين. عاد بلا خبز، لكنه حمل قناعة صامدة:
الوطن لا يهرب منه، حتى لو صار سجناً”
في قرية من قرى بابل، حيث النخيل يشهد على قداسة الأرض وفساد البشر، وقع في فخ الواشين. أُودع السجن، حيث يخرس الظلام الأصوات، إلا صوت دعاء أبي عبدالله الحسين (عليه السلام) يتردد في أعماقه:
يا حسين، يا حسين يا حسين أشفع لنا عند الله.
كانت المعجزة التي أنقذته من جوف التنين… حين فتحت له الأبواب، كأن السياط خجلت من صلابته، والجلادون انحنوا لإصرار روحٍ ترفض الانكسار. ترك خلفه سجناءً وقوفاً كأشباح، ينتظرون غيثاً من سماءٍ لا تمطر إلا يأساً.
عاد إلى قريةٍ نسيتها الحكايات، حيث تباع حقائب اليونيسف في السوق السوداء، وتزور وثائق تعويض النخيل. هناك، حاول إنقاذ محاصرين بإرشادهم إلى طلب اللجوء الإنساني، لكنهم تنكروا له. تعلّم أن القيم الحقيقية تختبر في المواقف، لا في الشعارات.
في عتمة الزمن، يسأل ابنه محمد:
“ماذا انتفعنا من السياسة والوطنية؟!”
صارت مذكراته ورقة ممزقة في ركام التاريخ، لكن كل حرفٍ فيها صرخة ضد النسيان. ليست سيرة رجلٍ مجهول فحسب، بل سيرة كل من يحمل وطناً في قلبه، ويصر أن يضيء شمعة في عتمة الزمن.
التاريخ يكتبه الهوامش
ربما تذكرنا هذه المذكرات أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون وحدهم، بل يكتبه أيضاً أولئك الذين سقطوا في الهوامش، وحملوا جراح الحقيقة حتى صاروا ظلاً لها.
أما مذكراته، فبقيت وثيقة في زاويةٍ مغبرةٍ من العالم، تنتظر يدا تصفحها، أو عينا تتعاطف معها ندوبِ لكلماتِها.
شاهدين صامتين، عن حجب الظلمِ والضمير.
ومذكراته الإ مرآة،
في زنزانةِ ذاكَ النظام.
انتهى الأمر كما بدأ: وحيدا. لم تعد الدولة تذكرهُ إلا رقمًا في ملف مغلق، ولم يَعد الواشي سوى صورةٍ باهتةٍ في ذاكرته. ربما كانت كلماته الأخيرة تحذيرا: «لا تثق بالضوءِ.. فكثيرونَ يرتدون أقنعةَ النجومِ، في ظاهرهم، لكنهم ينطفئون من حولك.
اشد من الظلام.










